«إِن كُنتُ أَسَأْتُ في الكَلام، فبَيِّنِ الإِساءَة. وإِن كُنتُ أَحسَنتُ في الكَلام، فلِماذا تَضرِبُني ؟» (يو18/ 23) هكذا أجاب يسوع أحد الحرس الذي لَطَمَه أثناء محاكمته.
الملفت للنظر هنا بأنّ يسوع لأوّل مرّة لم يمارس ما علّمنا إيّاه: «من ضربك على خدّك الأيمن فحول له الآخر». فهل من الممكن ليسوع أن يمارس عكس ما يعلّم؟ أم أنّه من الممكن فهم تعليم يسوع بهذا الخصوص بطريقة أُخرى؟ في الحقيقة الترجمة الدقيقة لهذه الآية هي: من ضربك على خدّك الأيمن فحوّل له آخر.
أي من عاملك بالعنف فافتح له طريقاً آخر غير العنف. هنا نرى كيف أنّ يسوع عاش بالفعل ما علّمنا إيّاه. عندما ضرب أحد الحرس يسوع، عندما مارس عليه العنف، فتح له يسوع طريقـًا آخر، فتح له طريق الحوار والتساؤل.
لا بل أكثر من ذلك، فجواب يسوع للحرس يرسل هذا الأخير إلى ذاته، يضعه أمام نفسه، أمام حقيقته: كمن يقول له لماذا تتصرف معي هكذا؟ يجعله يتساءل حول تصرّفه، حول مصدر هذا التصرّف: هل تعاملني كما يعاملك رئيسك وتود أن تُجيب عليه بالمثل، لكنّك لا تستطيع التصرّف معه هكذا، فتغتنم الفرصة لتفرغ عنفك فيَّ؟ هل تتصرّف معي بهذه الطريقة لكي تثبت وجودك وقدرتك؟ هل تتصرّف معي هكذا وأنت مقتنع بذلك؟
آلام المسيح تطرح علينا اليوم هذه التساؤلات بخصوص كلّ أنواع العنف الذي نمارسه على الآخرين. ففي أغلب الأحيان نعتقد بأن العنف هو وسيلة لإثبات الذات والشّعور بالثقة فيها. لكن الحقيقة هي عكس ذلك.
فالعنف الذي نمارسه على الآخرين هو أفضل تعبير عن ضعفنا وعدم ثقتنا بذاتنا. العنف هو في أغلب الأحيان أفضل تعبير عن هروبنا من مواجهة حقيقتنا، خوفاً من أن نكتشف منطقاً آخر غير منطقنا، منطق الله. خوفاً من أن نكتشف بأن حقيقتنا هي في مكان آخر، إنّها تكمن في الحبّ والحوار مع الآخر، خوفاً من أن نكتشف بأنّه في الضّعف تكمن قوّتنا، وفي الحبّ حقيقتنا.
آلام المسيح تكشف لنا شرّنا وعجزنا على أن نحوّل الشرّ إلى خير، والضعف إلى قوّة. تكشف لنا بأنّ الحياة الحقيقيّة هي الحياة المُعطاة وليست الحياة التي نحاول الاحتفاظ بها بأي ثمن كان. تكشف لنا بأن الاحتفاظ بالحياة، كالاحتفاظ بالمياه بين كفيّينا. آلام المسيح تكشف لنا بأنّ أفضل وسيلة لتجاوز عنفنا هو باب الحوار والتساؤل وليس باب العنف القاتل. تكشف لنا بأن قتل الآخر هو قتل للذات، وتحرّر الآخر هو تحرّر للذات.
آلام المسيح هي في النهاية انتصار الحقّ على الباطل، انتصار الحياة على الموت. انتصار إذن لكن ليس في أي مكان. لو كان يسوع خلّص نفسه متجنباً الموت، محيّداً الخطيئة، أي محيّداً المشاريع القاتلة للإنسان، لبقينا وحيدين مع خطيئتنا وموتنا. من الممكن أن نهرب من الخسارة محقـِّقين بذلك انتصارًا.
ولكن يسوع يجعل من الخسارة انتصارًا، لكي تصبح خساراتنا انتصارًا. عندما يقبل الله عارنا بحب، يصبح هذا العار مجداً. على الصّليب تمّ طعن الموت بضربة قاتلة، والخطيئة استقبلت النعمة.
فكان لا بدّ لذلك من أن يظهر المسيح كضحية كلّ مشاريعنا القاتلة، ولكن تحت شكل الخطيئة، مائتاً كموت المجرمين. «ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله» (2 قور 15).
فالمسيح المعلّق على الصّليب هو كشف وتجاوز لشرّ الإنسان. آلة العذاب والألم تصبح عرش المجد حيث يجلس المسيح. فالصّليب هو أيضاً المنبر الذي منه يتحدّث المسيح، لأنّ الصّليب يتكلّم: إنّه إعلان لنعمة الله مقابل شرّ الإنسان القاتل.
فتلكن لنا الجرأة للنظر إلى من طعنّا، إلى المصلوب أمامنا لنكتشف حقيقتنا ونترك ذاتنا ننجذب لمن عندما يُرفع على الصّليب سيجذب إليه جميع النّاس.
الأب رامي الياس اليسوعي.